الكيان الصهيوني- من العلوّ إلى التآكل، نحو الانحدار؟

المؤلف: د. محسن محمد صالح10.29.2025
الكيان الصهيوني- من العلوّ إلى التآكل، نحو الانحدار؟

بعد مرور ستة وسبعين عامًا على تأسيسه، يتبادر إلى الذهن سؤال محوري: هل بلغ الكيان الصهيوني ذروة مجده ونفوذه، وهل بدأت بوادر الضعف والاستنزاف تتغلب تدريجيًا على عوامل القوة والصعود؟ وهل وصل إلى ما يمكن تسميته بـ "النقطة المفصلية" أو "الحرجة"، حيث تتساوى قوى الجذب نحو الأسفل مع قوى الدفع إلى الأعلى، مما ينذر ببداية حقبة التراجع والانحدار؟!

ظاهرة التكامل والتآكل

إن ظاهرة "التكامل والتآكل" تُعد من السنن الكونية الراسخة التي تحكم حركة التاريخ ومسيرة الحياة. فليس مقدرًا لأي دولة، مهما بلغت من القوة والمنعة، أن تستمر في الصعود إلى مالا نهاية، ولا أن تتربع على قمة المجد أبد الدهر. هذه هي طبيعة دورة الحضارات والدول، وهي من قوانين الله – جل وعلا – الثابتة.

ومما يزيد من سرعة اضمحلال الدول وتدهور الحضارات تفشي الظلم والاستبداد والفساد. ولا شك أن ممارسات الطغيان والجور والإفساد التي لطالما ميزت المشروع الصهيوني، والتي تجلت في أبشع صورها خلال الحرب العدوانية على غزة، ستكون بمثابة الشرارة التي تعجل بتآكل الكيان الإسرائيلي وتراجعه. فها نحن نشهد بالفعل العديد من مظاهر هذا التآكل على الأصعدة الداخلية والإقليمية والدولية. ومما يسرع أيضًا من وتيرة الانحدار ظاهرة التَّرف والبذخ والإسراف، وهي آفات تظهر عادة في المراحل اللاحقة من عمر الدول، بعد فترات التأسيس والازدهار.

إننا في هذا المقال لا نهدف إلى تقديم دراسة مستفيضة ومعمقة لظاهرة التكامل والتآكل، بل نكتفي بلمحة سريعة تتناسب مع حجم المقال. ولكن من الواضح بما لا يدع مجالًا للشك أن الكيان الإسرائيلي قد دخل بالفعل هذه المرحلة، بعد أن بلغ أقصى درجات العلو والاستعلاء، وبدأت مظاهر التَّرهل والانحلال تنخر في بنيانه.

العلو الكبير (أو التكامل)

لقد نجح الكيان الإسرائيلي في استقطاب وتجميع ما يقرب من خمسة وأربعين بالمائة من يهود العالم، ووصل عدد اليهود في فلسطين التاريخية بحلول عام 2022 إلى حوالي سبعة ملايين ومائة ألف نسمة. كما نجح في ترسيخ صورته كـ "دولة فوق القانون"، وذلك بفضل نفوذه العالمي الهائل والتأثير القوي الذي تمارسه اللوبيات الصهيونية في صناعة القرار في الدول الكبرى. وتجاهل الكيان بكل استخفاف أكثر من تسعمائة قرار صادر عن الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة بحقه، معتمدًا على الدعم الأمريكي المطلق واستخدام حق النقض (الفيتو) لإجهاض أي إجراء أو موقف يمس مصالحه.

واستطاع الكيان أن يحقق مستوى اقتصاديًا متقدمًا، حيث بلغ الناتج المحلي الإجمالي – وفقًا لتقديرات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية – حوالي خمسمائة وخمسة وعشرين مليار دولار في عام 2022، ووصل متوسط دخل الفرد إلى خمسة وخمسين ألف دولار سنويًا، وهو ما يضاهي مستويات الدخل في دول أوروبا الغربية. وبرز الكيان كقوة رائدة في صناعة التكنولوجيا المتقدمة (الهاي تيك)، وحجز لنفسه مكانة مرموقة على الخريطة العالمية.

كما تبوأ مكانة كأقوى قوة عسكرية في المنطقة، مدججة بأكثر من مائتي قنبلة نووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل، وأخذ يلعب دور شرطي المنطقة، ساعيًا إلى فرض الأجندة الإسرائيلية والأمريكية عليها. وتمكن الكيان من استغلال مسار "التسوية السلمية" لصالحه، في تثبيت أركانه ومصادرة المزيد من الأراضي والمقدسات، وإيجاد سلطة فلسطينية تخدم مصالحه الأمنية وتقمع شعبها الأعزل.

وحقق الكيان تقدمًا تطبيعيًا كبيرًا في المنطقة، على أساس "السلام مقابل السلام"، وليس حتى "الأرض مقابل السلام"، وتمكن من إيجاد بيئات رسمية عربية وإسلامية تتودد إليه، وتحارب المقاومة الفلسطينية، بل وتحارب أيضًا التوجهات الإصلاحية والاتجاهات الإسلامية. وفي السنوات الأخيرة، أخذ الكيان يكشف عن هُوية يهودية أكثر وضوحًا وتعصبًا، وعن حكومة ذات ميول دينية وقومية متطرفة، وعن مشاعر أكثر استعلاءً وغطرسة، وعن سعي دؤوب للسيطرة الكاملة على الأرض وإغلاق الملف الفلسطيني إلى الأبد.

مخاطر وتهديدات (التآكل)

في المقابل، يواجه الكيان الإسرائيلي جملة من المخاطر الحقيقية والتهديدات المتزايدة، نذكر منها:

  • تجذر الفلسطينيين في أرضهم وتمسكهم بها، حيث تجاوز عدد الفلسطينيين عدد اليهود في فلسطين التاريخية (فلسطين المحتلة عام 1948 والضفة الغربية وقطاع غزة) منذ عام 2022 بحوالي أربعين ألف نسمة، ليبلغ سبعة ملايين ومائة وثلاثين ألف نسمة. ووفقًا لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، من المتوقع أن يتجاوز عدد الفلسطينيين عدد اليهود بحوالي أربعمائة وخمسين ألف نسمة في عام 2030 (مع استبعادنا أن يبقى مسار النمو السكاني على حاله، في ضوء احتدام الصراع).
  • تصاعد قوة المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي الشتات، وتحولها إلى خطر إستراتيجي واضح، لا سيما بعد عملية "طوفان الأقصى" البطولية.
  • تزايد التفاف الشعب الفلسطيني حول المقاومة، ونبذه لسلطة رام الله وقيادتها، التي دأبت على أداء أدوار وظيفية تخدم الاحتلال أكثر مما تخدم شعبها.
  • سقوط مسار التسوية السلمية وفقدانه لبريقه وجاذبيته، وعدم صلاحيته لمتابعة المفاوضات مع الفلسطينيين، ولا لتغطية الاختراقات التطبيعية للكيان الصهيوني في المنطقة.
  • فشل الكيان في التحول إلى كيان طبيعي في المنطقة، وما زالت الغالبية الساحقة من الشعوب العربية والإسلامية تنظر إليه كعدو وكسرطان، ولم يتجاوز التطبيع القشرة السطحية للأنظمة الرسمية.
  • استمرار حالة اللااستقرار والتشكل وإعادة التشكل في البيئة الإستراتيجية المحيطة بالكيان، والتي تنذر بموجة تغيير أقوى وأشد عنفًا وأقدر على تحقيق التحولات الجذرية من موجة "الربيع العربي" السابقة.
  • تفاقم المشاكل الداخلية التي يعاني منها المجتمع الصهيوني، وتصاعد الصراعات ذات الخلفيات العرقية والقومية، وتزايد النزاعات بين التيارات الدينية والتيارات القومية العلمانية.
  • انتشار مظاهر العولمة والترهل والتَّرف والرغبة في الاستمتاع بالملذات، وتفشي المثلية الجنسية، والتهرب من التجنيد، وتراجع مستوى الجندي الإسرائيلي وقدرته على القتال.
  • افتقاد المجتمع الصهيوني لقيادات من الطراز الأول، كتلك التي تحملت عبء إنشاء الكيان وقيادته في العقود الأولى من عمره.
  • تحول الكيان الصهيوني تدريجيًا من ذخر إستراتيجي إلى عبء ثقيل على الولايات المتحدة والقوى الغربية التي تقف خلفه، وذلك مع تزايد غطرسته وتكاليفه الباهظة وانكشاف ممارساته الوحشية، وتصاعد عزلته الدولية وتراجعه شعبيًا.

تدافعٌ يتّجه للانحدار

وهذا يعني أن الكيان الصهيوني يعيش حالة من "التدافع" المحموم بين عناصر قوته المتوهنة، وبين المخاطر والتهديدات المتصاعدة التي تحيق به. ونتيجة لذلك، لم يعد الكيان قادرًا على تحقيق المزيد من الصعود والتقدم، بل إن عناصر الجذب إلى الأسفل تتزايد قوتها باضطراد، ولن يطول الوقت حتى تبدأ مظاهر التراجع والانحدار في الظهور بشكل جلي.

لقد هزت عملية "طوفان الأقصى" الكيان الإسرائيلي بعمق، ونسفت نظريته الأمنية التي طالما تباهى بها، وأسقطت فكرة "أرض الميعاد" والملاذ الآمن لليهود التي قام عليها المشروع الصهيوني برمته، وقوضت صورة "القلعة المتقدمة للغرب" و"شرطي المنطقة". كما ألحقت أضرارًا فادحة باقتصاده المتهاوي، وحطمت أبرز أسس ومبررات عملية التطبيع المزعومة. والأهم من ذلك، أظهرت أن هزيمة الكيان هي فكرة عملية قابلة للتحقيق على أرض الواقع، وليست مجرد حلم بعيد المنال، وأن مظاهر القوة والهيمنة لدى الكيان هي أقل بكثير مما تبدو عليه، وأقل مما ترسخ في الوعي واللاوعي العربي والإسلامي وحتى العالمي. وأن جوهر العجز والقصور يكمن في الأنظمة الرسمية العربية والإسلامية.

ولعل هذا يفسر الخلفية الكامنة وراء الوحشية الهائلة التي تتسم بها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتصريحات الصادرة عن قادة الصهاينة بأن هذه الحرب هي معركة "الاستقلال" الثانية للكيان، في محاولة يائسة لاستعادة الصورة المهزوزة أو جزء منها.

إن قدرة المقاومة الفلسطينية الباسلة على الصمود والثبات في قطاع غزة، وفشل الاحتلال الإسرائيلي في تحقيق أهدافه المعلنة، سيكون بمثابة علامة تاريخية فارقة ونقطة تحول مفصلية. وهو ما دفع قادة الكيان أنفسهم إلى التحذير من أن "إسرائيل" إذا لم تنجح في سحق حركة حماس وإنهاء وضع قطاع غزة كمصدر للتهديد، فسيكون ذلك بمثابة بداية العد التنازلي لنهاية الكيان، وأنه لا مستقبل بالتالي للكيان في "الشرق الأوسط".

الخلاصة هي أن الكيان الصهيوني قد استنفد جميع فرص الصعود والتوسع، وهو الآن يصارع ببسالة من أجل تجنب الدخول في مرحلة الهبوط والتدهور. غير أنه يشهد بالفعل انحدارًا تدريجيًا يظهر بطيئًا في البداية، قبل أن تبدأ عجلته في التسارع على المديين المتوسط والبعيد. والله أعلى وأعلم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة